الأحياء ونظرية التطور: صُدَفِيّة خلق الكون
هل الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي قادرين على خلق الأحياء؟
لص اقتحم بنكا ووصل لخزانة الأموال. كل ما يفصله عن غنيمته أن يخمن الكود السري. ولكن الكود شديد التعقيد. هل يمكن أن يخمنه اللص بالصدفة؟
مثال ضربه ريتشارد دوكينز في كتابه “وهم الإله” في سياق عرضه لقدرة الانتقاء الطبيعي على إيجاد الأحياء المعقدة دون الحاجة لمصمم واعي
تخيل أن الكود السري يتكون من رقمين، فإن عدد الأكواد الممكنة يكون مائة. يستطيع اللص فتح الخزانة لو امتلك الوقت لتجربة المائة تجربة. ولكن فرضية أن يكون الكود مكون من رقمين هي فرضية تبدو غير منطقية لمصمم خزانة بأهمية خزانة أموال البنك. سيزيد عدد الأكواد الممكنة ل لمائة ألف لو كان الكود مكون من خمسة أرقام. وعشرة مليارات إذا كان عدد الكود مكون من عشرة أرقام. ولكن ماذا لو كان عدد أرقام الكود غير معروف؟ بعبارة أخرى، اللص لا يعرف طول الكود. يصبح أذن عليه تجربة عدد لانهائي من المحاولات للوصول للكود. السبب أن طول الكود قد يكون اثنين أو خمسة أو عشرة أو عشرين مليونا أو غير ذلك. أي أن الاحتمالات الممكنة لطول الكود غير محدودة، وبالتالي عدد المحاولات اللازمة لضمان الوصول للكود الصحيح غير محدود بدوره
يتفق ريتشارد دوكينز مع خصومه من الخلقيين – المؤمنون بوجود إله خلق الكون – في أن الصدفة غير قادرة على إيجاد الكائنات الحية المعقدة بما فيها من إبداع ودقة متناهية. ولكنه يختلف معهم في البديل. فإذا كان الخلقيين يرون أن وجود تصميم من مصمم واعي هو حتمية عقلية استوجبتها وجود هذه الكائنات المعقدة، فإن دوكينز يقول أن الانتقاء الطبيعي هو الحتمية العقلية الوحيدة القادر على تفسير ذلك
الخزانة توجه اللص
رجوعا لمثال الخزانة، يطلب دوكينز من قرائه أن يتخيلوا أن مصمم الخزانة صممها بحيث تعطي بعض التوجيهات بحسب الكود المدخل. يقوم اللص بمحاولة ما. ثم محاولة أخرى وثالثة. كلما اقترب من الكود الصحيح تصدر الخزانة صوتا ما، أو تخرج له مبلغا من المال. فيعلم اللص أن ما جربه به بعض الأرقام الصحيحة. ويحاول مرة أخرى في ضوء هذه المعلومة، فتخرج محاولاته من نطاق العشوائية التامة، فهناك ميكانيكية تبرز له المحاولات الأجدى، وتستثني المحاولات الأقل جدوى. يستطيع اللص بناء على ذلك القيام بتجاربه الجديدة بحيث تحتوي على أرقام أقرب للتجارب التي قالت عنها الخزانة أنها أصلح، وتفادي ما يشبه التجارب التي قالت الخزانة عنها أنها أدنى
سيستطيع اللص بعد وقت – وإن كان طويلا – الوصول للكود الصحيح
العامل الخفي
هل فعلا الانتقاء الطبيعي قادرا على إيجاد الكائنات؟ لو اعتبرنا أن الكود الصحيح هو الفراشة ذات الجناح الكامل. واللص الذي يجرب أكواد عشوائية شبيهة بالكود الأصلح هو الجينات التي تحدث طفرات عشوائية. فإن هناك عاملين أساسيين لولاهما لما وصل اللص للكود الصحيح، ولما وصلت الفراشة لجناح كامل.
العامل الأول: أصغر جناح
ما احتمال أن تنتج الطفرات العشوائية الأولى في تطور أي كائن منتجاً أصلح للعيش بشكل يتركه الانتقاء الطبيعي؟ مثلا، ما احتمال تكون جناح شديد الصغر – ولكن كبير بما يكفي لصناعة فارقا يجعله أصلح وأقدر على حفظ نوعه من الكائن عديم الجناح – ؟ ما احتمال تكون هذا الجناح من دون إرادة أو قصد من مصمم أراد خلق الجناح. كان من الممكن مثلا أن يتكون ذيل، أو منقار، أو يد وذراع كالإنسان لا تحدث فارقا في الطيران، أو كرة، أو هرم – بزوايا متناهية في التعدد – وهكذا. ما احتمال أن تختار الطفرات “العشوائية” أن تنتج جناحاً -صغيراً- بالذات من وسط هذه الأشكال اللانهائية؟ ثم إن حدث المستحيل مرة وتكون الجناح الصغير، ما احتمال أن تقوم الطفرات “العشوائية” بإنتاج منتج آخر ذو جناح أكبر وأجود بمقدار يجعل الفراشة أقدر على مواجهة الهلاك، بما يجعل الانتقاء الطبيعي يلعب دوره بدعمها في مواجهة الفراش الأقل صلاحاً؟ ما احتمال أن يقدم التغيير القادم نتيجة الطفرات جناحاً أجود بالذات من بين عدد لا نهائي من الاحتمالات الأخرى؟ الحل الوحيد هنا أن يكون الجين نفسه بالغ الذكاء، بشكل يجعل طفراته ليست عشوائية وإنما مقصودة وغائية. الأمر الذي لم يدعيه دوكينز لأنه سيستوجب بالضرورة وجود مبرمج ذكي برمج هذه الجينات لتقوم بهذه الطفرات الذكية، التي تجعل الفراشة تختار تكوين الجناح وتحسينه من وسط عدد لانهائي من الأشكال الفراغية الممكنة
العامل الثاني: الخزنة الذكية
دوكينز نفسه قال في سرد مثاله أن الخزنة “مصممة” بحيث تقول للص توجيهاً يزكي أو يستبعد محاولته بناء على كود صحيح تم برمجته منذ البداية، وبرنامج قانوني تم تلقينه لها لتحكم إن كانت المحاولة الحالية أقرب للكود الصحيح أم لا. بدون برمجة هذا الكود الصحيح في الخزانة، وبدون برمجة القوانين التي تصدر حكمها بمدى صلاح المحاولة، لن يتوصل اللص لأي شيء
الطبيعة نفسها بانتقائها الذي هو أحد تروس الميكانيكية المقترحة، ستكون لغزاً ليس له تفسير، برنامج الانتقاء الطبيعي المودع في الطبيعة، الذي يجعل الفراشة إن سقطت تنسحق وتموت، وإن حركت جناحيها ارتفعت ونجت، هذا البرنامج بدوره يحتاج إلى مبرمج يودع فيه هذه التفاصيل وهذه القوانين دون غيرها
الإله الكسول
ردا على الخلقيين القائلين بأن التطور بما يشرحه من طفرات عشوائية وانتخاب طبيعي ربما يظهر الميكانيكية التي اختارها الخالق لخلق الأحياء. يتساءل دوكينز بتهكم عن الإله الكسول الذي يحاول توفير مجهود التصميم والتنفيذ، فيقوم بترك الأمر للانتقاء الطبيعي. ويتسائل: ماذا يفعل الإله؟
كما ذكرنا فإن الطفرات العشوائية تحتاج للإله كي تختَر الاختيارات الصحيحة، وإلا لكان احتمال إنتاجها لمنتج تقدر الطبيعة على تصنيفه “أصلح” مستحيلاً. وكذلك قوانين الانتقاء الطبيعي نفسها تحتاج لمبرمج يودعها فيها دون غيرها
ولكن يبقى السؤال، لماذا اختار الإله هذه الطريقة إن كان قادرا على الخلق المباشر؟ هل لنقص في قدرته؟ مثلا كما يقوم الإنسان بصناعة أدوات متناهية في الصغر باستخدام آلات دقيقة، حيث يعجز الإنسان بدون تلك الآلات عن إنتاج تلك الأدوات؟
الحقيقة أن الخلق المباشر ليس بالضرورة أكثر صعوبة من الخلق بميكانيكية التطور، وأن العجب من قدرة صناعة هذه الميكانيكية لا يقل بالضرورة عن العجب قدرة الخلق المباشر. ولكن المهم بهذا الصدد هو أن الجهل بحكمة الاختيار لا ينفي وجودها. وأن كليهما لا ينفي أو يثبت حقيقة وجود إله خالق. قد يثير هذا تساؤلاً حول مدى قدرته أو حكمته، ولكنه لا يثري النقاش حول وجوده
التطور عند الخلقيين
والسؤال هنا، هل يقضي العقل الإنساني بأن استخدام طريقة التطور في الخلق بدلاً من الخلق المباشر يتطلب قدرة أقل، فيطعن ذلك في قدرة الخالق؟
هل يحيط العقل الإنساني بالحكمة من وراء كل ميكانيكية – التصميم والخلق المباشر أو التطور – ويقضي قطعياً بأن استخدام ميكانيكية التطور هي الأقل حكمة، فيطعن ذلك في حكمة الخالق؟
الإجابة لا، ليس هناك حكم عقلي قطعي ومتفق عليه عن القدرة اللازمة والحكمة المتصلة بكل ميكانيكية. والسبب في ذلك نقص كبير في المعلومات اللازمة للحكم على ذلك. ولذلك فإن الخلقيين الذين يأخذون موقفاً معادياً للتطور كميكانيكية، ويرون بأنها لا حاجة لها مع إله قادر، يقول للشيء إن أراده كن فيكون، بحاجة لمراجعة موقفهم. فليس لهم المصادرة على حكمة الله وإرادته في اختيار سننه التي أرادها للكون والخلق. ليس لهم أن يتحدوه فيقولون، أخلق بأصعب طريقة من منظور البشر، وإلا كنت غير مطلق القدرة. إذ ربما تقتضي حكمته طريقة أخرى. وليس لهم أن يقولوا له، إن أنت اخترت طريقة في الخلق، عليك أن تقل لم اخترتها وتقنعنا ما الجدوى من ورائها. إذ أن الله مطلق الإرادة ليس بحاجة لأن يبرر إرادته لأحد أو يبرز حكمته لأحد. وطالما لم يقضِ العقل بتناقض حكمة الخالق مع اختياره اختيار معين من هذه الاختيارات فليس هناك ما يقال في هذا الموضوع
من خلق الله؟
يقول دوكينز، أن دليل التصميم يجزم بعدم وجود إله. إذ لو كان هناك لكل كائن معقد مصمم. فمن خلق الله، الكائن الذي يظهر من صفاته وقدرته أنه شديد التعقيد
والحقيقة هنا أن العقل يحكم بوجود صانع لكل مصنوع ومغير لكل متغير، حتى وإن لم يكن شديد التعقيد. فطالما أن المصنوع لم يكن موجوداً، ثم صار موجوداً فلابد من سبب أوجده. لابد من مغير أحدث هذا التغيير. فمثلاً إن تركتُ ورقة على مكتبي، ورجعتُ فوجدتُّها على الأرض، فإن هناك مغيراً أحدث هذا التغير في موضعها. قد يكون الرياح، أو ابني أو غير ذلك. أما أن ينتج هذا التغيير بغير سبب يحدثه فهذا يقضي العقل باستحالته. الساعة التي تلبسها، برنامج الكمبيوتر الذي تكتبه، والمقال الذي تقرأه. كلها أشياء لم تكن موجودة ثم أوجدت. يقضي العقل بضرورة وجود أسباب قامت بعمل هذا التغير أو الصناعة
الإنسان والحيوانات والأرض والسماء والكواكب، كلها لم تكن موجودة ثم صارت موجودة. فلابد من سبب أوجدها. وهذا السبب بدوره لم يكن موجودا ثم صار موجودا فلابد من موجد له
أما الله، فهو موجود منذ الأزل. واجب الوجود، لم يكن يوماً ليس موجوداً ثم صار موجوداً كي يحتَاج إلى موجد. وهو ثابت لا يطرأ عليه التغير، كي يحتَاج لمُغَيِّر يُغَيِّره. فالموجود أصلاً، الغير متغيِّر لا يقضي العقل بحتمية وجود سبَبٍ سبَّبَ وجوده أو سَبَّبَ تغيره. لأنه لا يوجد تغير حادث يحتاج لمُحدِث له
الخلاصة
كما أن التجارب العشوائية والخزانة الذكية التي تقيم محاولات اللص تفتقران لهدف واضح يهدف له اللص بالوصل للكود الصحيح، وعقل ذكي من اللص ينتج محاولات في الاتجاه الصحيح الذي تلمح له الخزنة، ومبرمج أودع الخزنة الكود الصحيح و برنامج قوانين التزكية. فإنه بالمثل، الطفرات العشوائية لا تستطيع دون ذكاء وغائية مودعين بها من إنتاج طفرات تجعل الكائنات أصلح. والطبيعة تحتاج لمبرمج أودعها قوانينها التي تهلك بها الأقل صلاحاً وتترك الأصلح. بغير هذا المودِع، لن تستطيع الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي خلق جناح لفراشة